أخيراً سقطت القسطنطينية.. رغم حبها الشديد للصمود والبقاء.. سقطت.. رغم المحاولات المستميتة لغزوها وتركيعها... سقطت.. رغم المحاولات العديدة لكسر أنفها،.سقطت.. فمعاوية بن أبي سفيان حاول معها بحملتين "الأولى كانت عام 49 هـ.666م، والثانية كانت عام 54 هـ ، 673 م".. لكن دون جدوى.. وكررها سليمان بن عبدالملك "عام 99هـ. 719م"، لكنها أبت وقاومت.. وبشرفها ومجدها التاريخي نجت من القبضة القوية لفرسان وأسود جيش سليمان بن عبد الملك.. ويأتي بنو عثمان ويحيى الأمل مرة ثالثة ورابعة في دخولها، على يد السلطان بايزيد الأول ثم مراد الثاني.. ولكن لا جدوى.. وأخيرا سقطت.. قل ببشارة النبي محمد... أو ببسالة وذكاء وروح العناد لفاتحها محمد الثاني.. أو بالعمر العتيق الذي فرض السقوط بحكم الضعف والهوان والتفتت الذي استشرى في جنبات المدينة الجبارة.. المهم أنها سقطت.. والأهم أن قصة سقوطها يجلب في نفس كل مسلم الفخر والعزة والأمل في النهوض بعد السبات، وتجلب في نفس كل مسيحي غربي الخزي والإحساس بالفراغ والخضوع لقوة الزمن الذي لا يعترف بالسيطرة المطلقة لأمة واحدة أو شعب واحدمهما علا نجمه وحمى سيفه.. لكن كيف سقطت القسطنطينية؟؟
لن نكون مبالغين إذا قلنا أن الفضل الأول والثاني والأخير لغزو القسطنطينية يرجع لمحمد الفاتح.. ولعل أكبر دليل على ذلك تلك الحملات العديدة التي حاول بها المسلمون فتحها بدءاً من معاوية بن أبي سفيان وانتهاء بسلاطين بني عثمان.. كل هؤلاء حاولوا باستماتة، ولم يدخروا ذرة جهد أو إخلاص في بذل الغالي قبل الرخيص، ومع ذلك، لم يكتب النجاح لهم، وقيض الله والقدر والتاريخ لمحمد الفاتح في أن ينتزع أنف تلك المدينة الشامخة العنيدة.
ولد محمد الفاتح في رجب 835 هـ "30 مارس 1432م"، وتولاه والده السلطان مراد الثاني برعاية خاصة جدا، رعاية جعلت الابن يشب على الخشونة وحب القتال والبعد عن رغد القصور الذي يولد في ساكنيها الاستخذاء والكسل. ويقول الرواة ان محمد الثاني كان صاحب علم وأدب وشعر "أجاد اللغات العربية واليونانية واللاتينية، وله قصائد شعرية، يصفها قدامى النقاد بأنها قوية لا ركيكة"، تماما مثلما كان صاحب حرب ونزال.
بعد وفاة السلطان مراد الثاني "السابع في سلاطين بني عثمان"، وكان ذلك في5 من محرم 855 هـ. 7 من فبراير 1451 م، جلس الفتى على كرسي السلطنة وهو لم يتعد بعد سن الثانية والعشرين من عمره، بدءاً من تلك اللحظة، سنجد أنفسنا أمام رجل وملحمة لا اختلاف بينهما وبين الإسكندر الأكبر وملحمته الغريبة المدهشة.
نعم، هناك تطابق، شكلا وموضوعا، بين الإسكندر المقدوني ومحمد الفاتح.. فكلاهما تقلدا زمام الحكم في سن مبكرة.. وكلاهما شابا على روح جوهرها حب النصر والانطلاق والإيمان المطلق بالعقيدة.
وفور أن جلس الفتى على كرسي السلطنة، سرت في الحياة رعشة تنم عن ان الحاكم الجديد لا يركن إلى الراحة ولا يعرف دفء المخادع وآرائك الحكم.. فالرجل ينطلق منذ اللحظة الأولى نحو هدف عزيز طال عناده ومقاومته، لذلك نرى أن أول قرار كان اتخذه السلطان الجديد هو تشييد حصن "روميليا" على مضيق البوسفور، وتحديدا على مدخل البحر الأسود، وبهذا الحصن، والآخر الذي كان السلطان بايزيد الأول قد شيده على الجانب المقابل، يكون العثمانيون قد أحكموا القبضة على البيزنطنيين، وسيطروا، كما نقول بلغة العصر، على المنافذ والجيوب الاستراتيجية. ويقول الرواة ان بناء هذا الحصن تكلف تسخير 15 ألف عامل "البعض يقول 6 آلاف فقط"، وقد أمر السلطان توزيع قواد جيشه على النقاط الرئيسية من الحصن حتى يتم الانتهاء منه في أقل وقت ممكن، وانجز الحصن بالفعل في أغسطس 1452 م.
إذا، السلطان محمد الفاتح يدرك جيدا الطريق الذي يسير فيه، يعرف ماذا يريد، وكيف يصل إلى ما يريده، كان صاحب أسلوب علمي في التفكير، وله رؤية استراتيجية في التخطيط منطقي، وواقعي، وأهم من هذا كله، كان حريصا على سرعة الانجاز لأن يرى أن الهدف يترنح من الضعف وعلى وشك الانهيار، ولابد من انتهاز الفرصة قبل أن تضيع بلا رجعة، وفي لحظات البناء والتشييد، كان الامبراطور البيزنطي يتابع الموقف وقلبه يأكله من الخوف والحسرة، الأمر الذي جعله يرد بتصرفات متناقضة، فتارة يحاول استرضاء السلطان العثماني، ويمد العمال الأتراك بالمؤن والغذاء، وتارة يهاجم الحصن في مرحلة البناء ويقتل العمال ويدمر ما صنعته أيديهم. والسلطان العثماني بالطبع هادئ لا يتوقف عما بدأه، يعرف على وجه الدقة الخطوة التالية، فمع تزايد هجمات البيزنطيين على الحصن، استغل محمد الفاتح تخبط ردود أفعال الخصم وأعلن الحرب على الامبراطور البيزنطي بادعاء أنه معتد أثيم.
وفي 6 أبريل، يروي لنا الرواة، أرسل قسطنطين "كان معروفا عنه اعتزازه الشديد بنفسه، ورفضه التام للاستسلام، لدرجة أنه نال احترام المؤرخين المسلمين لإصراره الدفاع عن مدينته حتى الرمق الأخير" رسالة دبلوماسية للسلطان العثماني، جاء فيها: "لما كان من الجلي أنك تريد الحرب أكثر من السلام، ولما كنت غير مستطيع أن أقنعك بإخلاصي واستعدادي لأن أكون تابعا لك، فالأمر لله، وسأحول وجهي إلى الله، فإذا كانت إرادته تقضي بأن تصبح هذه المدينة مدينتك، فلا مرد لقضاء الله وقدره، وأما إذا ألهمك الرغبة في السلام، فسأكون سعيدا ما بقيت، ومع ذلك، فإني أعفيك من كل تعهداتك واتفاقاتك معي، وسأغلق أبواب هذه المدينة وأدافع عن شعبي إلى آخر قطرة من دمي.."
فحوى الرسالة كما هو واضح، محاولة لاستمالة الطرف الآخر إلى السلام وشده إلى المسالمة والبعد عن المواجهة والصدام.. لكن السلطان يأبى دون فتح المدينة ودخولها وإنهاء الأمر برمته على النحو الذي يراه، وإلى جانب التأكد من ضعف حيلة الخصم، دفع القدر إلى السلطان العثماني صانع مجري اسمه "أوربان" عرض عليه فكرة تصنيع مدفع ضخم قذائفه كفيلة بدك اقوى الحصون وأكثرها منعة "من الثابت تاريخيا أن الأتراك كانوا أول من صنعوا المدافع، وكانوا يهتمون بشكل خاص بسلاح المدفعية، وازداد هذا الاهتمام بصورة ملحوظة في عهد محمد الفاتح". وفي عام 1543 م، وتحديدا في اليوم الخامس من شهر إبريل، نظم الجيش العثماني صفوفه أمام اسوار المدينة العنيدة، وكان من بين الصفوف العلماء والأشراف، وظهرت الكتائب العثمانية في تنظيمات لا تقل دقة وإحكاما عن أساليب تنظيم الجيوش الحديثة، وباستثناء مناوشات قامت بها فرق الإنكشارية التي عرف عنها استهانتها بالموت، دام الحصار أكثر من اسبوع صاحبه ضرب متواصل بالمدافع التي كانت ترمي بقذائفها دون توقف.
وفي 18 إبريل، شن العثمانيون هجوما على المدينة من الأجزاء التي تهالكت في الأسوار، لكن لم يكتب لهذه الجولة النجاح، فارتد المهاجمون إلى حالة الحصار مرة ثانية.
في نفس الوقت، كان الأسطول العثماني يحاول اختراق المدينة من "القرن الذهبي" الذي كان يسيطر عليه الإسطول البيزنطي بمساعدة نظيره الإيطالي، كانت العثرة الوحيدة في اختراق هذا الميناء هو سلسلة ضخمة تمتد من يسار الميناء إلى يمينه، الأمر الذي حال دون دخول أي سفن إلا بعد السماح لها.. خلاف ذلك، يكون مصير السفن المعتدية الضرب والتحطيم من قبل الأسطول البيزنطي. والملحمة شرسة، لكن العناد هو الوقود الذي يحرك الطرفان، لذلك، قدح السلطان زناد فكره، ووصل إلى حل لمشكلة السلسلة، أمر الجنود نقل السفن برا إلى منطقة "غلطة" إلى داخل الخليج لتفادي السلسلة اللعينة، وشرع المهندسون في وضع خطتهم بتمهيد الطريق وتغطيته بألواح الخشب المطلي بالدهن والشحم، وفي ظرف ليلة واحدة، انتهى العثمانيون من نقل 70 سفينة إلى وجهتها.
ويأتي يوم 27 مايو من نفس العام. 1543، ليبدأ الفصل الأخير من قصة فتح القسطنطينية واستسلامها. ففي هذا اليوم، بدا الهجوم الكبير على المدينة، الهجوم الذي لم تتوقف موجاته المتلاطمة من القوات المتعطشة للنصر والمجد إلا وقد دخلت المدينة التي استحق فاتحها لقب "محمد الفاتح".
..... الرجوع .....